من القرية إلى المدينة: رحلة الإنسان من التوحيد إلى البناء الحضاري
بقلم: م. براء صبيح – Sensorial Life for Education
بدأت رحلة الإنسان على هذه الأرض بخلق الله لآدم عليه السلام، أبو البشر وأول خليفة في الأرض. خلقه الله بيديه، وأسجد له الملائكة، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه إلى الأرض ليبدأ مشروع الاستخلاف.
ومع بداية البشرية، كان التزاوج ضرورة للبقاء، فتزوج أبناء آدم من أخواتهم بأمر إلهي، لحفظ النوع البشري. كانت مرحلة بدائية طبيعية فرضتها قلة البشر. ومع مرور الزمن، وتزايد النسل، بدأ هذا النمط من التزاوج ينتهي، ومعه بدأت تتغير نظرة الإنسان للمرأة.
بدأ الإنسان يرى في المرأة كيانًا مختلفًا عن “الأخت” التي كانت يومًا شريكته في النشأة. تحوّلت صورتها من مجرد أنثى إلى “أم”، مصدر الحياة، الرحمة، والرعاية. وفي هذا السياق البدائي العميق، كان من الطبيعي أن يربط الإنسان الأول بين صورة المرأة والملائكة من فرط تقديسه لها، خاصة أن المرأة كانت الكائن الوحيد الذي يمنح الحياة للأجيال.
ولذلك، حين جاء الإسلام الخاتم، خاطب الله المشركين الذين بالغوا في هذا التصور، قائلاً:
“أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثًا إنكم لتقولون قولًا عظيمًا”
[الإسراء: 40]
إنها إشارة تربوية دقيقة إلى طبيعة التحولات النفسية والرمزية التي مر بها الإنسان في تعامله مع المرأة عبر العصور.
ومع تطور البشرية، كانت الحكمة الإلهية واضحة: كل الأنبياء كانوا رجالًا. فالرسالة النبوية تتطلب من صاحبها القيادة، الجهاد، المجابهة، السفر، إدارة النزاعات، ومواجهة الظالمين.
قال الله تعالى:
“وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم من أهل القرى”
[يوسف: 109]
اختيار الرجال ليس تمييزًا ضد المرأة، بل لأن النبوة وظيفة تقتضي مواصفات بدنية ونفسية واجتماعية تتناسب مع الرجل، بينما اصطفى الله المرأة لدور لا يقل قداسة: الأمومة، الرعاية، التربية، وصناعة الأجيال.
وبدأ الإنسان يستقر، فظهرت القرى. ومعها بدأ الانقسام العقائدي. رغم أن كل الأنبياء جاؤوا بدين واحد: الإسلام بمعناه العام: توحيد الله، الإيمان بالغيب، العمل الصالح، التقوى، والعدل.
قال تعالى:
“شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه”
[الشورى: 13]
لكن مع ظهور القرى، بدأت العادات، العصبيات، التقاليد الوثنية. فصار الناس بين من يؤمن ويستجيب للرسل، وبين من يكفر ويكذب.
وجاءت مرحلة “القرى” في النص القرآني، وهي المرحلة التي ارتبطت بالهلاك، لأن أغلب القرى كانت ترفض دعوات الرسل.
قال تعالى:
“وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتًا أو هم قائلون”
[الأعراف: 4]
“وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولًا يتلو عليهم آياتنا”
[القصص: 59]
“وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون”
[القصص: 59]
لكن القرى التي آمنت نجت، بل تحوّلت إلى نواة حضارية جديدة. مثل قوم يونس في نينوى:
“فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي”
[يونس: 98]
وكذلك قوم سبأ في زمن بلقيس بعد إسلامها مع سليمان عليه السلام:
“رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين”
[النمل: 44]
وأيضًا مصر في عهد يوسف عليه السلام، حين آمن الملك بيوسف وأعطاه مفاتيح الحكم.
كل هذه القرى التي نجت، تحولت بعد الإيمان إلى مجتمعات مستقرة، وبدأت تأخذ ملامح “المدينة”… أي المجتمع المنظم، الآمن، العادل.
ثم جاءت النقطة الفاصلة في التاريخ: مكة… أم القرى.
اختارها الله في قلب اليابسة. وكأن الجغرافيا ذاتها تقول: “هنا نقطة التوازن العالمي”.
العالم كما فسّره بعض العلماء ينقسم إلى ثلاثة أنماط من الشعوب:
• شعوب شرقية: روحانية وعاطفية (الهند، الصين).
• شعوب غربية: مادية وعقلانية (أوروبا، أمريكا).
• شعوب شمالية: نظامية ومنضبطة (شمال أوروبا وروسيا).
وفي المنتصف… مكة… مركز الاعتدال… الأمة الوسط.
قال تعالى:
“وكذلك أوحينا إليك قرآنًا عربيًا لتنذر أم القرى ومن حولها”
[الشورى: 7]
في مكة وُضع الحرم، وحددت حدوده، وأصبح رمزًا للأمان:
“ومن دخله كان آمنًا”
[آل عمران: 97]
لكن رغم قداسة مكة، لم تكن المكان الذي يؤسس فيه النظام السياسي والاجتماعي…
جاء ذلك لاحقًا… في المدينة المنورة.
وهنا ظهر الفرق القرآني الدقيق بين الإسلام والإيمان.
فكل الأنبياء كانوا على الإسلام العام: التوحيد والعمل الصالح. لكن بعد بعثة محمد ﷺ، أصبح الإسلام مشروطًا بالإيمان برسالته واتباع شريعته.
قال تعالى:
“قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم”
[الحجرات: 14]
ثم قال عن صفات المؤمنين الحقيقيين:
“إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون”
[الحجرات: 15]
“إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم…”
[الأنفال: 2]
وفي المدينة… انتقلنا من مجرد الإيمان الفردي إلى “الدولة”، و”النظام”، و”الشورى”.
“وأمرهم شورى بينهم”
[الشورى: 38]
“والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم”
[الحشر: 9]
في المدينة نزلت الأحكام: الأسرة، الاقتصاد، الجهاد، القضاء… وتحوّل الإسلام من دعوة… إلى حضارة.
وهنا يأتي الإسقاط التربوي…
في Sensorial Life for Education… نستلهم هذه الرحلة في كل مشروعنا التربوي…
نبدأ من الفطرة… نغرس التوحيد… ثم نؤسس القيم… ثم نبني الأنظمة… ثم نصل إلى “المدينة التربوية”: مؤسسة تجمع بين المعنى والتنظيم، بين الإيمان والإدارة، بين العقيدة والبرنامج.
وهكذا… من فوضى البداية… إلى نور المدينة… رحلة الإنسان… ورحلتنا في التربية والتعليم.