الأنبياء والكواكب في المنظور القرآني والروحي
مقدمة
لطالما ارتبطت رموز السماء في القرآن والسنة بهداية الأنبياء وبنور الرسالة. فالله سبحانه زيَّن السماء بالكواكب والنجوم وجعلها “مصابيح” تهدي في ظلمات البر والبحر . وبالمثل، كان الأنبياء مصابيح هداية للبشر على الأرض. وليس من المصادفة أن نجد تشابهاً رمزياً بين ترتيب الأنبياء في الوحي، ومراتب الكواكب والنجوم في السماء ضمن علم الهيئة القديم. وقد أشار النبي محمد ﷺ إلى هذا المعنى بقوله: «النجوم أمنةٌ للسماء… وأنا أمنةٌ لأصحابي…» ، أي أن انتظام النجوم يحفظ نظام السماء كما يحفظ وجوده ﷺ وصحابته نظامَ الأمة من الضلال. في هذا المقال التحليلي، نربط بين تسلسل الأنبياء كما ورد في القرآن الكريم وظهورهم الرمزي في السماء عبر الكواكب والنجوم، في ضوء رؤيا يوسف عليه السلام، وقصة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، ومعجزة انشقاق القمر للنبي محمد ﷺ، وغيرها من الدلائل القرآنية والحديثية وعلوم الفلك الروحي عند المسلمين، دون الرجوع إلى تصورات الفلك الحديث (ناسا) بل اعتماداً على نظرة روحية علمية مستمدة من التراث الإسلامي.
رؤيا يوسف والكواكب الأحد عشر
يقصُّ القرآن رؤيا عجيبة رآها النبي يوسف عليه السلام في صباه: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ . وقد أجمع المفسرون على أن تأويلها المباشر هو سجود أحد عشر أخًا (رمزها الكواكب) ووالديه (يرمز لهما بالشمس والقمر) له بعدما رفعه الله في الدنيا . غير أن للرؤيا بعداً رمزياً أعمق يستوقف الباحث المتدبر؛ إذ يمكن تأمل الكواكب الأحد عشر باعتبارها تمثل مقامات أحد عشر نبيًا اصطفاهم الله قبل يوسف في تسلسل زمني، وكأن يوسف هو خاتمة تلك السلسلة المباركة التي ورثت مشعل التوحيد عبر الأجيال. فعلى سبيل المثال، يمكن تعداد خط الأنبياء من آدم عليه السلام إلى يوسف عليه السلام في أحد عشر حلقة: آدم، ثم إدريس، ثم نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم إبراهيم، ثم لوط، ثم إسماعيل، ثم إسحاق، ثم يعقوب، وصولاً إلى يوسف عليهم السلام جميعاً. فهؤلاء ورد ذكرهم في القرآن ضمن أنبياء قديمة كانوا من أسلاف يوسف أو معاصري سلالته . إن “أحد عشر كوكباً” في رؤيا يوسف تمثل هؤلاء الأنبياء كنجوم مضيئة تتلألأ في سماء الروحانية، كلٌّ منهم كان هادياً لقومه كالنجم في الظلام. وسجودها ليوسف يعني انتظام رسالاتهم جميعاً وتمهيدها للمجد الذي سيبلغه يوسف؛ فكأنما يوسف جمع إرث النبوات قبله واكتمل به عقدٌ من النور المتسلسل. وهكذا أصبحت حياته تحقيقاً لبشارات من سبقوه. وقد قال يعقوب أبو يوسف في تأويل الرؤيا لابنه: ﴿كَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ… وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ آبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ ، فاجتباء الله له هو تمام مسيرة الاجتباء التي حظي بها آباؤه إبراهيم وإسحاق ومن قبلهما من الأنبياء. من هذا المنظور الروحي، كانت كواكب يوسف رمزاً لتتابع المقامات النبوية حتى زمانه، وكل كوكب منها يمثل مقام نبي مضى، اصطفاه الله ورفعه مكاناً علياً. وعلى الرغم من أن التفسير الظاهر للرؤيا تحقق بسجود إخوة يوسف ووالديه له تحققاً حسيّاً ، يبقى هذا التأويل الرمزي متسقاً مع نظام إلهي دقيق يربط عالم الأرض بعالم السماء: فكل نبي هو كوكب يهتدى به في ليل البشرية، كما قال تعالى: ﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ .
النبي إبراهيم عليه السلام ونجم البداية
إذا كانت رؤيا يوسف جمعت رموز سلسلة طويلة من الأنبياء، فإن إبراهيم الخليل عليه السلام مثّل بداية طورٍ جديد للتوحيد، حتى لُقّب بأبي الأنبياء. وقد واجه في شبابه عباد الأصنام والأجرام السماوية في قومه، فنقلهم من ضلال التعدد إلى نور الوحدانية بحكمة بالغة. يصور القرآن مشهداً من بحث إبراهيم عن الحقيقة بين أفلاك السماء: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي﴾ ، ظناً منه – على سبيل المجاراة لقومه أو التفكر – أن هذا الكوكب المشرق ربما يكون الإله الذي يبحث عنه. يروي بعض المفسرين أنه رأى كوكب الزهرة خصيصاً لبريقه . لكن لما غاب ذلك الكوكب قال إبراهيم: ﴿لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ ، أي أدرك بفطرته أن الإله الحق لا يغيب ولا يأفل. ثم ظهر القمر وقال عنه: ﴿هَٰذَا رَبِّي﴾ حتى أفل ، ثم الشمس حتى غابت فقال: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ . هذه المناظرة القرآنية العميقة ترمز إلى أن إبراهيم عليه السلام لم يحتج إلا إلى رؤية “كوكب” واحد يأفل ليوقن أن ما بعد الأفول ربٌّ باقٍ لا يغيب . فهو لم يغرق في تفاصيل الظواهر الكونية المتعددة، بل قاده نجمه الأول – الذي أفل – إلى استنتاج وحدانية الخالق الذي “لا تأخذه سنة ولا نوم”. من هنا يمكن القول إن إبراهيم بدأ مسار التوحيد برمز كوكب واحد هدى إلى الواحد الأحد. وهذا يتناسب مع مقامه كأول من بنى بيتاً لله (الكعبة المشرفة) على الأرض ليكون مركز التوحيد ؛ فكأن الكعبة تقابل الكوكب الذي رآه: فكما كان الكوكب نقطة انطلاق للبحث عن الله، كانت الكعبة نقطة مركزية لعبادة الله وحده. وهكذا أسّس إبراهيم قاعدة التوحيد التي سيبني عليها من جاء بعده. وليس مصادفة أن يكون مقام إبراهيم حرفياً بجوار الكعبة حيث آية ﴿وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾؛ فهذا المقام (الحَجَري) يذكرنا بمقامه المعنوي كرائد التوحيد. لقد كان إبراهيم نجماً هادياً في سماء التوحيد رغم أنه في الظاهر رأى كوكباً واحداً ثم تجاوزه إلى ما وراءه؛ وكأنما يقول لنا: كما يهديكم نجم واحد إلى جهة القبلة، قد يهدي مثالٌ واحد من التفكر في خلق الله إلى معرفة ربِّ القبلة .
القمر رمزًا للنبي محمد ﷺ
القمر هو أبرز الأجرام السماوية في المخيلة الإنسانية، وقد ارتبط بالنبي محمد ﷺ في عدة مواضع ومعانٍ رمزية. فأولاً، اختصّه الله بمعجزة عظيمة هي انشقاق القمر: حيث طلب مشركو مكة آية، فأراهم الله انقسام القمر فلقتين بقدرة ربانية تصديقاً لنبوته . سجل القرآن ذلك بقوله تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾ . إن وقوع هذه المعجزة الفلكية ليلًا له دلالة روحية؛ فالليل رمز الشدة والابتلاء، وانفلاق القمر فيه نورٌ وسط الظلام. كذلك جاءت رسالة محمد ﷺ نوراً ورحمةً وسط جاهلية حالكة. وثانياً، اشتهر في وصفه الشريف أن وجهه كان كالبدر المنير في الحسن والإشراق. فقد روي في الحديث الصحيح أنه “كان إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعةُ قمرٍ” . وشبّه الصحابة رضوان الله عليهم جمال طلعته بضياء القمر ليلة البدر حتى قال الشاعر حسان بن ثابت فيه: “وأحسنُ منك لم ترَ قطُّ عيني” إلى أن قال “كأنك قد خُلقت كما تشاء” مشبهاً إياه بالبدر في تمامه. بل إن الأمة تغنت عبر تاريخها بأنشودة “طلع البدر علينا” ترحيباً بقدومه مهاجراً إلى المدينة، تصفه بالبدر الذي أشرق فاتّضح به السبيل. وإن لم يثبت سند هذه القصة تاريخياً ، فقد رسخت في الوجدان الشعبي رمز البدر للدلالة على النبي ﷺ بوصفه أشرق على أهل المدينة كطلوع القمر من بين ثنيات الوداع. أما ثالثاً، ففي القمر إشارة باطنية خاصة إلى كمال العبودية التي حققها خاتم النبيين ﷺ. فالقمر كوكب منير لكنه يعكس نور الشمس ولا يشعّ بذاته؛ كذلك النبي محمد ﷺ بشر اصطفاه الله فملأ قلبه نوراً حتى صار “سراجاً منيراً” يهتدي به الخلق . وكما أن القمر أقرب الأجرام إلى الأرض فنوره أشد مباشرة لنا، كان محمد ﷺ أقرب الأنبياء إلى الناس زماناً ومكاناً وتأثيراً، فكان نور هديه أوضح سبيل إلى الله. والأعجب أن للقمر وجهًا واحدًا يواجه الأرض دائما ووجهًا آخر خفيًا لا نراه – بسبب دورانه المتزامن حول الأرض – وهذه خاصية فريدة. يمكن للمتأمل أن يستلهم من ذلك رمزًا لحال النبي ﷺ: فقد توجه بوجهه الظاهر للبشرية رحمةً وهدى وهو بينهم، أما باطنه ووجه قلبه فكان أبداً متجهاً إلى ربه لا يحيد✧. فهو الذي كان يعبد الله حتى تتفطر قدماه، ويقوم الليل حتى تورم، ويواصل الذكر والفكر حتى قالت له أم المؤمنين عائشة: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيجيبها: «أفلا أكون عبدًا شكورًا». فقد تعلق قلبه بالسماء وروحه بالعرش وهو في الأرض بين الناس، فكأنه القمر: وجهٌ مشرقٌ دائمٌ للأرض ووجهٌ آخر لا يراه الخلق لأنه متصلٌ بعوالم الغيب العالية. ومن هنا يفهم سر وصفه بالبدر وارتباط معجزة القمر به خاصةً؛ فالله جعل انشقاق القمر آية “اقتربت الساعة” إيماءً إلى أن مبعثه ﷺ هو الفصل بين ليل الكفر الطويل وفجر يوم القيامة الذي اقترب ببعثته ختمًا للرسالات.
الكواكب السبع ومقامات الأنبياء
اعتمد علماء الفلك المسلمون على نظرية الأفلاك السبعة التي ورثوها وطوروها عن الحضارات القديمة . فقد اعتبروا أن هناك سبعة كواكب سيارة (تشمل الشمس والقمر ضمن التصنيف القديم للكوكب) تتحرك في سبعة أفلاك متدرجة تحيط بالأرض: ترتيبها من الأقرب إلى الأرض إلى الأبعد هو: القمر، ثم عطارد، ثم الزهرة، ثم الشمس، ثم المريخ، ثم المشتري، ثم زحل . وقد توافقت هذه النظرة الكونية مع وصف المعراج النبوي؛ إذ صعد الرسول محمد ﷺ في السماوات طبقة طبقة حتى السابعة، ولقي في كل سماء نبيًا من الأنبياء مرتّبًا بترتيب يكاد يقابل ترتيب هذه الكواكب . وهذا التوازي العجيب يوحي بأن الكواكب السبعة ترمز إلى سبعة من أولي العزم والرسل الكبار الذين يشكلون أعمدة تاريخ الإيمان. في الجدول التالي نربط كل كوكب بأحد الأنبياء، مع ذكر الدليل على العلاقة الرمزية بينهما من القرآن أو الحديث أو الروايات:
الكوكب (الفَلَك)
|
النبي المقابل ⚑
|
الدليل والتفسير الرمزي المستند عليه
|
زحل (الفلك السابع؛ أبعد الكواكب)
|
إبراهيم عليه السلام
|
لقيه النبي محمد ﷺ في السماء السابعة عند سدرة المنتهى ، وهو الأعلى مقامًا مثلما أن زحل أرفع الكواكب موضعًا. يرمز بُعد زحل وبطء دورانه إلى رسوخ دعوة إبراهيم وطول صبره عبر الزمن. وقد كان إبراهيم أول من أسس بيت التوحيد على الأرض، فكأنه الكوكب الأبعد الذي به يبدأ البناء الكوني الروحي.
|
المشتري (الفلك السادس)
|
موسى عليه السلام
|
لقيه النبي ﷺ في السماء السادسة . والمشتري كوكب كبير مضيء يُشبَّه بالملِك؛ وكذلك موسى أكبر أنبياء بني إسرائيل وصاحب الشريعة العظيمة (التوراة). اشتكى موسى في المعراج من كثرة أتباع محمد ﷺ مقارنة بأتباعه ، فكأن ضوء المشتري خفت أمام سطوع شمس محمد في السماء التالية.
|
المريخ (الفلك الخامس)
|
هارون عليه السلام
|
لقيه النبي ﷺ في السماء الخامسة . والمريخ يُعرف بلونه الأحمر، لون التضحية والنار. وهارون هو الذي أوقد نار الحق بجانب موسى وكان وزيره في تحمل أعباء الدعوة ومواجهة التحديات (ومنها فتنة السامري التي اكتوى بنارها بنو إسرائيل). اقتران موسى وهارون كاقتران المشتري والمريخ المتجاورين في الترتيب.
|
الشمس (الفلك الرابع؛ النير الأعظم)
|
إدريس عليه السلام
|
لقِيَ النبيُّ ﷺ إدريسَ في السماء الرابعة . جاء عن إدريس في القرآن: ﴿وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾ أي رفع روحه إلى مقام عالٍ. والشمس أرفع جرمٍ في مجموعتنا وأشدها إشراقًا، فكان إدريس كالشمس مضيئًا في قومه. وهو أول من خط بالقلم ولبس المخيط ونظر في علم النجوم والحساب ، مما يشير إلى ريادته العلمية، فكأن علومه كانت نورًا يمهّد لعلوم من بعده كما تمهّد الشمس النهار.
|
الزهرة (الفلك الثالث؛ نجمة الصبح والمساء)
|
يوسف عليه السلام
|
لقِيَه النبيُّ ﷺ في السماء الثالثة . والزُهرة أشد الكواكب لمعانًا وجمالاً، حتى سماها الإغريق فينوس (إلهة الجمال). وكذلك كان يوسف آيةً في الحسن والجمال حتى قيل إنه “قمرٌ بين البشر”. خرج يوسف من ظلمة الجب إلى عزة مصر فكان كوكب الزهرة يلوح بعد ليل طويل. وكون ترتيبه ثالث الأفلاك يذكّر بأنه الثالث في جيل آبائه (إبراهيم – إسحاق – يعقوب – ثم يوسف رابعًا)، وبأنه تلقى نور التوحيد المتلألئ عبر آبائه كما تتلقى الزهرة نورها من الشمس وتعكسه. كما أن رؤياه الأحد عشر كوكبًا جعلت له صلة خاصة بالنجوم وكأن نجمه (الزهرة) كان ألمعهم.
|
عطارد (الفلك الثاني؛ الكوكب السريع)
|
عيسى عليه السلام (عليه السلام)
|
لقِيَ النبيُّ ﷺ عيسى بن مريم في السماء الثانية مع يحيى بن زكريا . عطارد أصغر الكواكب وأسرعها دورانًا حول الشمس؛ وكذلك كانت مدة رسالة عيسى قصيرة بالنسبة لغيره وانتقل شابًا إلى السماء . لكنه على صغر سنّه أسرع الله رفعه إلى عليين ، كما أن عطارد على صغره قريب جدًّا من الشمس. وعيسى آخر أنبياء بني إسرائيل وخاتم حلقاتهم المشرقة، فكأن عطارد آخر الكواكب الداخلية اللامعة قبل أن ننتقل إلى كوكب الأرض حيث بُعث خاتم النبيين محمد ﷺ. جدير بالذكر أن عيسى يُدعى في التقليد المسيحي “كوكب الصبح المنير”، وفي الإسلام هو آية من الله حملت نور البشارة بمحمد ﷺ.
|
القمر (الفلك الأول؛ أقرب الأجرام للأرض)
|
محمد ﷺ (خاتم النبيين)
|
لم يكن محمد ﷺ في المعراج داخل السماء الدنيا، بل كان هو الصاعد عبرها ومستقبل الأنبياء فيها تكريماً ؛ ومع ذلك يمكن اعتبار القمر رمزًا خاصًا لمقام محمد ﷺ لعدة أسباب: (1) معجزة انشقاق القمر له أظهرت سيادته على آيات السماوات ، (2) وصف وجهه بالنور والبدر ، (3) القمر يعكس نور الشمس كما أن محمدًا يعكس أنوار الوحي الإلهي؛ فهو «سِرَاجًا مُنِيرًا» لا لأنه مصدر النور بل حامله ، (4) القمر يواجه الأرض بوجه واحد دائم كما أن رسول الله أبدى للبشرية وجهاً واحداً من الرحمة والبذل، ووجهه الآخر (باطنه) موصول بالله دائمًا. ومن هذا المنظور، يفوق مقام محمد ﷺ كل الأنبياء مقامًا كما يفوق نورُ البدر نورَ سائر الكواكب، فهو سيدهم وإمامهم في السماء والأرض .
|
⚑ ملاحظة: ترتيب الأنبياء على الكواكب أعلاه يُستلهم من لقاء النبي ﷺ بهم ليلة المعراج بحسب صحيح الروايات ، وهو ترتيب فيه دلالات عميقة وإن لم يكن ترتيبا زمنيا بحتا. ولا يعني هذا الجدول أن الأنبياء الآخرين دون هذه المنزلة، بل لكل نبي قدره ومقامه، وإنما وقع الاختيار على سبعةٍ منهم لمناسبتهم رمزيًا للأفلاك السبعة المذكورة في علوم الهيئة القديمة .
النجوم الأخرى: رموز الأنبياء والشهداء والصالحين
بعد الكواكب السبعة السيارة، تمتد في السماء مليارات النجوم الثابتة التي تزين القبة السماوية كلها. وقد أخبر القرآن أنه زيَّن السماء الدنيا بزينة الكواكب وبمصابيح منيرة . فإذا كانت الكواكب العظام ترمز إلى الأنبياء أولي العزم وأصحاب الرسالات الكبرى، فإن سائر النجوم يمكن أن ترمز لسائر الأنبياء والأولياء والصالحين الذين جعلهم الله زينةً روحيةً في سماء الإيمان، يهتدي بضوئهم المهتدون في ظلمات الحياة . فنحن نوقن أن لله تعالى مائة وأربعة وعشرين ألف نبي أو أكثر بعثهم في الأمم كافة عبر التاريخ – ذُكر منهم خمسة وعشرون نبيًا في القرآن. هؤلاء كلهم نجومٌ متلألئة في صحيفة الوجود، لكلٍّ منها مقامه ومداره. وبعضهم اختصّه الله برفعه حيًا إلى السماء ليكون آية للناس؛ فرفع إدريس مكانًا عليًّا ، ورفع عيسى ابن مريم إليه حيث بقي في السماوات وسينزل إلى الأرض آخر الزمان. فإذا تأملنا السماء نجد طبقات ومراتب: فهناك نجوم تكاد تضاهي الكواكب إضاءة وقربًا، وهذه يمكن تشبيهها بأمثال إلياس ويحيى وزكريا عليهم السلام وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل الذين ورد أن النبي ﷺ رآهم في بعض الروايات أثناء الإسراء في مراتب عليا . وهناك نجوم بعيدة وخافتة ولكنها باقية وثابتة، تُذكّرنا بمن قد يكونون أنبياء لم يُحك قصصهم تفصيلاً ولكن نور نبوتهم باقٍ معلوم عند الله. وكذلك الحال مع الشهداء والصالحين؛ فالنبي ﷺ أخبر أن أرواح الشهداء في حواصل طير خُضر تسرح في الجنة ، فكأن نجوم الليل التي تُرى خضراء باهتة أحيانًا ترمز إليهم وهم أحياء عند ربهم يُرزقون كما أخبر تعالى . بل إن المؤمنين عمومًا إذا صدقت أعمالهم كانوا كالنجوم يُقتدى بهم – وقد جاء في الأثر المشهور (وإن كان ضعيف الإسناد) قوله ﷺ: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم». والمعنى الصحيح له ثابت في أن من سار على منهج الصحابة اهتدى، فهم نجوم الأمة بعد نبيها. وفي حديث صحيح آخر: «النجوم أمنةٌ للسماء فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما تُوعَد، وأصحابي أمنةٌ لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما تُوعَد» . فالصحابة رضي الله عنهم – وهم خير القرون – شبهوا بالنجوم الحارسة للسماء؛ فبوجودهم وحملهم للعلم النبوي حُفظت الأمة من الضلال الماحق. وبعدهم قام بهذا الدور العلماء الربانيون ورثة الأنبياء، فهم نجوم الاهتداء في كل عصر ومصر. قال الحافظ ابن القيم: «العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يُهتدى بها». لذا يمكننا اعتبار سماء الدنيا مرصَّعةً بنجوم لا حصر لها إشارةً إلى أن هدى الله انتشر في البشرية عبر أعداد لا يحصيها إلا الله من عباده الصالحين الذين أناروا ظلمات الأرض بنور الإيمان والمعرفة. ولعل هذا ما أومأ إليه حديث المعراج حين رأى النبي ﷺ هناك أرواح الأنبياء مجتمعين وصلّى بهم إمامًا في بيت المقدس قبل الصعود؛ فامتلأت السماء بأنوار موكبه الشريف ومن التقاه من إخوانه المرسلين .
خاتمة: نظام سماوي دقيق ومعنى روحاني عميق
وهكذا تتجلّى لنا صورة نظام دقيق في خلق الله السماوي يرتبط بنظام هدايته الرباني للبشر. فالكواكب والنجوم ليست أجرامًا مادية صماء وحسب، بل هي آيات تحمل رسائل رمزية لمن يتدبر. لقد توسل القرآن والسنة بلغة السماء كثيرًا لهداية الأرض: فذكر الله الشمس والقمر والنجوم في مواضع عديدة مقرونـةً بتوحيده ، وحذّر من عبادتها بدل الله ، لأن وراءها خالقًا واحدًا ينبغي أن نتوجه إليه. وفي الوقت نفسه، استُعير نور الكواكب لوصف نور النبوة والوحي؛ فالنبي ﷺ هو “النور السراج المنير” ، والصحابة النجوم، والعلماء ورثة ذلك النور كالقمر يستمد ضياءه من الشمس. إن التأمل في ترتيب الأنبياء مقترنًا بأفلاك السماء يرتقي بالعقل والبصيرة لفهم حكمة الخالق في جعل كل شيء بقدر وميزان. فكما أن للكواكب مدارًا ثابتًا لا تحيد عنه، كذلك للأنبياء مراتب اصطفاهم الله عليها: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۘ… وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾. وكما أن نور القمر مستمد من نور الشمس، فكذلك علوم الأولياء مستمدة من نور خاتم الأنبياء. وفي كل ليلة ينظر الناس إلى السماء فيرون مشاهد تتكرر – من شروق كوكب إلى غروب آخر – دون أن يملوا؛ فكذلك قصص الأنبياء تتلى آناء الليل وأطراف النهار لتذكّرنا دائمًا بأن للكون خالقًا واحدًا، وأن البشرية منذ آدم إلى محمد على صلاة واحدة وسلام واحد. إن هذا التناغم بين السماء الروحية والسماء المرئية يمنحنا يقينًا بأن الدين والفلك عند التأمل العميق ليسا عالمين منفصلين، بل هما صفحتان من كتاب إلهي واحد؛ كتاب منظوم بالنجوم والآيات، يقرأ فيه أهل الأرض دلائل الهدى مكتوبة بأحرف من نور على صفحة السماء.
المصادر: القرآن الكريم؛ صحيح البخاري ؛ صحيح مسلم ؛ تفسير السعدي ؛ تفسير ابن كثير ؛ كتب السنة والسيرة ؛ كتب الهيئة والفلك الإسلامي ؛ وغيرها.